Ads 160x600
Ads 160x600
الرئيسية / / آراء / الخطاب الملكي بين بلاغة الايجاز وسياسة الانجاز

الخطاب الملكي بين بلاغة الايجاز وسياسة الانجاز

كيوسك أنفو 06 سبتمبر 2025 - 09:30 آراء

د صلاح الدين اركيبي – في زمن تتشظى فيه الاصوات وتتناسل الخطابات الشعبوية، يظل الخطاب الملكي المغربي نصا مغايرا: نصا يزاوج بين الرمزية والسلطة والمعنى، ويصوغ عبر لغة واضحة لا التباس فيها معمارا سياسيا وفكريا وفق مشهدية ترحال تيمي موضوعاتي يستعصي على الاختزال، أسوة بالكاتب لما طلب منه ان يلخص كتابه وفق سقف زمني محدد فرد بلمحة ذكية وأناقة لفظية ولباقة فكرية : ” انتم كمن يطلب مني ان أضع جملا في شطيرة “.

من هنا يأتي ضابط السبق وهنا يكمن عنصر المغامرة في المشروع البحثي الذي خاضه الدكتور ياسين ازريعة في طبعته الثانية من مؤلفه بلاغة الايجاز وفصاحة الانجاز؛ ليس لانه مجرد دراسة لسانية بل لانه محاولة لفك شيفرات خطاب يمارس السياسةبكل كياسة دون تياسة او تناطح من اجل الكلإ الانتخابي في مواعيد مخصوصة، فكان بحق خطابا ملكيا متمرسا يمارس السياسة باللغة دون الانزلاق في مهاوي لغة السياسة ومهاترات و أراجيف التحريف والتزييف الذي يدأب عليه الساسة .

هذا الكتاب الذي تجاوزت صفحاته 822 صفحة منقوشة على ورق اصفر شاموا فاخر، هو بحق حفريات فكرية في طبقات خطابات صاحب الجلالة. الدكتور ازريعة أو رجل السلطة المحنك لا يقرأ النصوص كما تقرأ البيانات بل يعاملها كمدونة استراتيجية أي كنسق ممتد على مدى ربع قرن، نسق يتجاوز الاستعجال السياسي الى بناء تراكمي يربط بين الشرعية التاريخية والفاعلية المؤسساتية والتواصل الجماهيري.

 

الخطاب الملكي كما يظهر في هذا العمل ليس خطابا للتبرير بل خطاب للتأسيس والتفسير، خطاب للتفكيك اكثر مما للمقارعة والمساجلة والتشكيك، لا يبحث عن افتعال الانبهار بل يراكم الثقة عبر الاظهار. وفي مقابل الهشاشة الخطابية للسياسة الشعبوية حيث يغدو الكلام لعبة انتخابية هشة بخطاب هذيل تقصمه اول قشة، لينهض الخطاب الملكي البديل بمهمة السلطة الغوية الحكمية والحاكمة التي تنصت اكثر مما تجادل وتقنع اكثر مما تراوغ وتنازل حفظا للمواقع والمنازل.

 

الأهم في هذا الكتاب ليس فقط كشفه للهيكل النصي للخطابات من الاستهلال الممهد الى الخاتمة المؤثرة، بل تتبعه وتعقبه الدقيق للخوارزميات الخفية التي تصنع التتبع الجماهيري: كيف يصاغ الاقناع؟ كيف يدار الاصغاء ؟ كيف يصنع التاثير فور بثه على الاثير؟ وكيف تتحول الكلمة الى قوة مادية تنظم المشهد السياسي وتعيد ترتيب الحقل العمومي!

 

ولعل اكثر ما يثير الانتباه هو ابرازه للأشكال التواصلية الحديثة للمؤسسة الملكية وخروجها من نمطية الخطاب الرسمي عبر القنوات الرسمية في إطار انفتاح تواصلي لفظي وغير لفظي وقبول جلالته لثقافة السيلفي مع شعبه الوفي؛ هذه الايماءة البسيطة في ظاهرها كسرت الجدار الصلب بين السلطة والشارع لتجعل من الملكية تجربة قرب يومي ورمزي في آن.

هنا تتحول الصورة الى خطاب وتتحول اللحظة العابرة الى تعبير سياسي استراتيجي يرسخ الثقة بدل ان يكتفي بترسيم المسافة.

 

الكتاب يضعنا أمام حقيقة قد تغيب عن البعض: ان الخطاب ليس مجرد كلمات بل هو ممارسة للسلطة وتشكيل للزمن السياسي. من يقرأ خطابات الملك كما لو كانت مجرد نصوص احتفالية يخطئ البوصلة؛ فهي نصوص تصنع الافق تحدد الاتجاه وتبني الشرعية على قاعدة مزدوجة: بلاغة الايجاز وفصاحة الانجاز.

 

لهذا فان الطبعة الثانية من مؤلف الدكتور ياسين ازريعة لا تقرأ ككتاب فقط بل كوثيقة استراتيجية وكمختبر حي لفهم المغرب في تحولاته ومفتاح لفهم كيف يمكن للغة ان تكون أخطر ادوات السلطة وأجملها في الوقت ذاته…

شاركها LinkedIn